تعتبر خيانة الأمانة من الجرائم الأخلاقية والقانونية التي تشكل تهديدا للأمن الاجتماعي والثقة المتبادلة بين الأفراد في المجتمع، حيث تشكل هذه الجريمة تحديا قانونيا كبيرا يستدعي تسليط الضوء على النصوص المجرمة لها وآثارها الاجتماعية.
وقد عالج القانون المغربي خيانة الأمانة بصرامة نظرا لما لها من آثار مدمرة على العلاقات الإنسانية والاقتصادية، وذلك من خلال الفصول من 547 إلى 555 من مجموعة القانون الجنائي، من خلال الفرع الذي عنونه بـ: "في خيانة الأمانة، والتملك بدون حق" حيث وضع المشرع المغربي إطارا قانونيا محددا لجرد الأفعال المشكلة لها وتحديد عقوباتها، وقد نص المشرع المغربي من خلال الفصل 547 على:
"من اختلس أو بدد بسوء نية، اضرارا بالمالك أو واضع اليد أو الحائز، أمتعة أو نقودا أو بضائع أو سندات أو وصولات أو أوراقا من أي نوع تتضمن أو تنشئ التزاما أو ابراء كانت سلمت إليه على أن يردها، أو سلمت إليه لاستعمالها أو استخدامها لغرض معين، يعد خائنا للأمانة ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم.
وإذا كان الضرر الناتج عن الجريمة قليل القيمة، كانت عقوبة الحبس من شهر إلى سنتين والغرامة من مائتين إلى مائتين وخمسين درهما مع عدم الإخلال بتطبيق الظروف المشددة المقررة في الفصلين 549 و 550"
انطلاقا من هذا الفصل يتبين لنا أن المشرع المغربي قد ميز جريمة خيانة الأمانة عن غيرها من الجرائم بمجموعة من الخصائص لا من حيث الأركان ولا من حيث العقاب، وهو ما سنحاول تناوله من خلال هذا المقال، فما هي العناصر التي تشكل هذه الجريمة؟ والعقوبات التي وضعها المشرع لزجر مرتكبيها، مع الوقوف عند الظروف المؤثرة في تخفيف أو تشديد العقاب؟
وقبل أن نبحر في الحديث عن هذا الموضوع، نود إحاطة عنايتكم إلى أننا قد نشرنا مسبقا فيديو يشرح أركان وعقاب جريمة خيانة الأمانة "بالداريجة" على منصة يوتيوب، في إطار شرحنا وتبسيطنا لمختلف الدروس الخاصة بشعبة القانون، يمكن مشاهدته أسفله:
المطلب الأول: أركان جريمة خيانة الأمانة
تمثل جريمة خيانة الأمانة إحدى الجرائم التي تعتمد في إثباتها ومعاقبة مرتكبيها على توفر عناصر أو أركان معينة تثبت توافر النية الإجرامية والفعل المجرم. ولفهم كيفية تحديد مسؤولية الأفراد عن هذه الجريمة وفق القانون المغربي، يتعين علينا استعراض وتحليل الأركان التي تقوم عليها جريمة خيانة الأمانة لكي يمكن القول بأن هذه الجريمة قد ارتكبت فعلا. لذلك سوف نتوقف من خلال هذا المحور على كل من الركن المادي (الفقرة الأولى) المتمثل في الفعل المرتكب، والركن المعنوي (الفقرة الثانية) المتعلق بالنية والقصد الجنائي، وسنسعى من خلال هذا التحليل إلى تقديم فهم متكامل وشامل لكيفية تطبيق القانون المغربي في حالات خيانة الأمانة.
الفقرة الأولى: الركن المادي
بالرجوع إلى الفصل 547 من القانون الجنائي، نجد أن الركن المادي لجريمة خيانة
الأمانة يتكون من ثلاث عناصر وهي: تسلم الجاني لمنقول على سبيل الأمانة (أولا)
واختلاس أو تبديد المنقول من طرف المتسلم (ثانيا) ثم تحقق الضرر لمالك المنقول أو
حائزه أو واضع اليد عليه بسبب الاختلاس أو التبديد (ثالثا) [1] وسنحاول
الوقوف عند كل عنصر من هذه العناصر لتحليلها أكثر.
أولا: تسلم الجاني لمنقول على سبيل الأمانة
حيث يشير النص القانوني سالف الذكر -الفصل 547 من القانون الجنائي- إلى أن الأشياء التي اختلسها أو بددها الجاني كانت "سلمت إليه على أن يردها، أو سلمت إليه لاستعمالها أو استخدامها لغرض معين". مما يعني اشتراط المشرع المغربي لسبقية تسلم المنقول من طرف الجاني قبل أن يقوم بالاختلاس أو التبديد (الذي سنتعرف عليه من خلال العنصر التالي) فإذا لم يسبق خيانة الأمانة تسلم فسيكيف الفعل إلى جريمة أخرى كالسرقة، ومهما كان الشيء المتسلم سواء أمتعة، نقود، بضائع، سندات، وصولات، أو أوراق، وساء ام بناء على اتفاقية أو عقد يلزمه برده أو استخدامه لغرض محدد.
ومن أمثلة ذلك: أن يتسلم الشخص نقودا من شخص آخر بهدف الاحتفاظ بها أو استخدامها في مشروع معين، بشرط إعادتها لاحقا. أو أن يتسلم السائق مفاتيح السيارة قصد العمل بها كسائق لرب العمل بشرط إعادتها عند انتهاء كل مهمة وعدم استعمالها فيما هو شخصي، وغيرها الكثير من الأمثلة.
ثانيا: اختلاس أو تبديد المنقول من طرف المتسلم
ويتجلى عنصر اختلاس أو تبديد المنقول من طرف المتسلم من خلال عبارة "من اختلس أو بدد بسوء نية". ويقصد بالاختلاس الاستيلاء على الشيء بنية تملكه بشكل غير شرعي، أما التبديد فيشير إلى تصرف الجاني بالشيء على نحو يخالف الاتفاق، سواء بتفريط فيه أو بإنفاقه بما يخالف الغرض المتفق عليه.
- ولعل أبرز أمثلة هذا العنصر: الشخص الذي تسلم النقود من شخص معين واستخدمها لأغراض شخصية دون إذن من المالك، أو أن يتفق مع صاحبها على استثمارها في مشروع معين ثم يختفي بها بدلا من استثمارها في ذلك المشروع المتفق عليه.
ثالثاً: تحقق الضرر لمالك المنقول أو حائزه أو واضع اليد عليه بسبب الاختلاس أو التبديد
وهذا العنصر المتمثل في تحقق الضرر لمالك المنقول أو حائزه أو واضع اليد عليه بسبب الاختلاس أو التبديد، يتبين من خلال إشارة المشرع إلى أن الفعل يتم "بسوء نية، اضرارا بالمالك أو واضع اليد أو الحائز". والضرر يمكن أن يكون ماديا أو معنويا، ويكفي لتحقق الجريمة أن يكون الفعل قد ألحق ضررا بالمالك أو الشخص الذي كان بحوزته الشيء.
وأقرب مثال إلى ذلك: المالك الذي يتعرض لخسائر مالية نتيجة اختفاء النقود التي كان ينوي استخدامها في نشاط تجاري مهم، أو في عملية جراحية...
الفقرة الثانية: الركن المعنوي
أولا: العلم
العلم يعني أن يكون الجاني مدركا للطبيعة القانونية لتصرفه وأنه يتصرف بسوء نية، وفي سياق الجريمة موضوع دراستنا فيتضح عنصر العلم في أن الجاني يعلم أن المنقول قد سُلّم إليه على سبيل الأمانة وأنه مُلزَم برده أو استخدامه لغرض معين. ذلك أن العلم يتطلب أن يكون الجاني على دراية بأن الفعل الذي يقوم به (الاختلاس أو التبديد) غير قانوني وأنه يخون الثقة التي مُنحت له.
ثانيا: الإرادة
المطلب الثاني: عقاب جريمة خيانة الأمانة
جريمة خيانة الأمانة من الجرائم التي توليها التشريعات الجنائية اهتماما خاصا نظرا لما تنطوي عليه من خيانة للثقة وإضرار بالمصالح الاقتصادية للأفراد والمجتمع. ومن تلك التشريعات فالقانون الجنائي المغربي يعاقب على هذه الجريمة بعقوبات تختلف حسب الظروف المرتبطة بها، سواء كانت الجريمة في صورتها البسيطة (الفقرة الأولى) أو عند اقترانها بظروف التشديد (الفقرة الثانية) أو التخفيف أو الإعفاء (الفقرة الثالثة) مع الوقوف عند بعض العقوبات الاضافية في الحالات الخاصة (الفقرة الرابعة).
الفقرة الأولى: العقوبة في الصورة البسيطة (العادية)
وفقا للفصل 547 من القانون الجنائي المغربي، يعاقب على جريمة خيانة الأمانة في صورتها البسيطة بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم، ويشترط في هذه الحالة كما رأينا مسبقا أن يكون الجاني قد اختلس أو بدد المنقول بسوء نية، مما أدى إلى الإضرار بالمالك أو واضع اليد أو الحائز.
الفقرة الثانية: العقوبة عند اقتران الجريمة بظروف التشديد
ترفع عقوبة خيانة الأمانة عند اقترانها بظروف مشددة كما يلي:
الفصل 549: ترفع العقوبة إلى الحبس من سنة إلى خمس سنوات والغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم في الحالات التالية:
- إذا ارتكب الجريمة عدل أو حارس قضائي أو قيم أو مشرف قضائي أثناء قيامه بوظيفته أو بسببها.
- إذا ارتكبها الناظر أو الحارس أو المستخدم في وقف، إضرارًا بهذا الأخير.
- إذا ارتكبها أجير أو موكل، إضرارًا بمستخدمه أو موكله.
الفصل 550: إذا ارتكب خيانة الأمانة أحد الأشخاص الذين يحصلون من الجمهور على مبالغ أو قيم على سبيل الوديعة أو الوكالة أو الرهن، سواء بصفتهم الشخصية أو بصفتهم مديرين أو مسيرين أو عملاء لشركات أو مؤسسات تجارية أو صناعية، فإن عقوبة الحبس المقررة في الفصل 547 ترفع إلى الضعف، كما يرفع الحد الأقصى للغرامة إلى مائة ألف درهم.
الفقرة الثالثة: العقوبة عند اقتران الجريمة بظروف التخفيف أو الإعفاء
خفف المشرع عقوبة جريمة خيانة الأمانة من خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 547 التي تنص على: "إذا كان الضرر الناتج عن الجريمة قليل القيمة، تكون عقوبة الحبس من شهر إلى سنتين والغرامة من مائتين إلى مائتين وخمسين درهما." وهو ما يعكس تقدير المشرع لأهمية قيمة الضرر في تحديد العقوبة المناسبة.
هذا وقد نص الفصل 548 على سريان الإعفاء من العقوبة وقيود المتابعة الجنائية المقررة في الفصول من 534 إلى 536 على جريمة خيانة الأمانة المعاقب عليها بالفصل 547. مما يعني أن هناك ظروفًا قد تعفي الجاني من العقوبة أو تقلل من شدتها، وهي:
- يعفى من العقاب، مع التزامه بالتعويضات المدنية، المختلس أو المبدد في الأحوال الآتية:
1- إذا كان المال المبدد أو المختلس مملوكا لزوجه.
2- إذا كان المال المبدد أو المختلس مملوكا لأحد فروعه.[2]
- إذا كان المال المبدد أو المختلس مملوكا لأحد أصول السارق أو أحد أقاربه أو أصهاره إلى الدرجة الرابعة، فلا يجوز متابعة الفاعل إلا بناء على شكوى من المجني عليه؛ وسحب الشكوى يضع حدا للمتابعة.[3]
- المشاركون أو المساهمون مع المبددين أو المختلسين، الذين تنطبق عليهم أحكام البندين السابقين، وكذلك مرتكبوا جريمة إخفاء تلك الأشياء المبددة أو المختلسة، لا تسري عليهم أحكام هذين البندين، طالما أنهم لا تتوفر فيهم الصفات المشار إليها فيهما.[4]
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأعذار المعفية وقيود المتابعة الجنائية المذكورة أعلاه، لا تسري إلا على جريمة خيانة الأمانة المعاقب عليها بالفصل 547 (أي في صورتها البسيطة العادية) أما إذا اقترنت بأحد ظروف التشديد المنصوص عليها في الفصول 549 و 550 فإن مرتكبها لا يستفيد من هذه الأعذار.
الفقرة الرابعة: عقوبات إضافية في حالات خاصة
تشمل الفصول الأخرى في القانون الجنائي المغربي عقوبات إضافية لجريمة خيانة الأمانة في حالات خاصة، مثل:
- الفصل 551: يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين إلى مائتين وخمسين درهمًا لمن تسلم مبالغ مقدمة من أجل تنفيذ عقد ثم رفض تنفيذ هذا العقد أو رد تلك المبالغ دون عذر مشروع.
- الفصل 552: يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم لمن استغل حاجة قاصر أو فاقد الأهلية للحصول منه على التزام أو إبراء أو أي سند يمس ذمته المالية. ترفع العقوبة إلى الحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين وخمسين إلى ثلاثة آلاف درهم إذا كان المجني عليه تحت سلطة الجاني أو إشرافه أو رعايته.
- الفصل 553: يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم لمن خان أمانة ورقة موقعة على بياض.
- الفصل 554: يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم لمن قدم ورقة أو مستندًا في نزاع إداري أو قضائي ثم اختلسها أو بددها.
- الفصل 555: في الحالات المشار إليها في الفصول 547 و549 و550 و552 و553، يجوز أيضًا الحكم على الجاني بالحرمان من واحد أو أكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل 40 وبالمنع من الإقامة من خمس سنوات إلى عشر.
خاتمة:
ختاما، تُعد جريمة خيانة الأمانة من الجرائم الخطيرة التي تنطوي على انتهاك جسيم للثقة بين الأفراد والإضرار بالمصالح المالية والاقتصادية للمجتمع. وقد تعامل القانون الجنائي المغربي مع هذه الجريمة بصرامة، حيث وضع نصوصا واضحة تحدد أركانها المادية والمعنوية، وفرض عقوبات رادعة تتناسب مع جسامة الفعل وضرره.
يبرز القانون الجنائي المغربي من خلال فصوله المختلفة، ولا سيما الفصول 547 إلى 555، اهتمامه بتفصيل العقوبات التي تتراوح بين الحبس والغرامة، مع الأخذ في الاعتبار الظروف المشددة والتخفيفية وحتى الإعفاء من العقوبة في بعض الحالات. هذا التوازن يعكس حرص المشرع على تحقيق العدالة الجنائية وحماية حقوق الأفراد والمجتمع من الأفعال الخائنة التي تزعزع الثقة والأمانة.
كما يظهر جليا أن القانون يميز بين الحالات المختلفة لجريمة خيانة الأمانة، سواء في صورتها البسيطة أو المقترنة بظروف مشددة أو مخففة. هذا التفصيل يعكس مرونة القانون في التعامل مع الجريمة بواقعية، مما يتيح للقضاء أن يكيف العقوبة بما يتناسب مع طبيعة كل حالة وظروفها الخاصة.
- اقرأ أيضا: