تشكل حقوق الارتفاق أحد أهم القيود التي ترد على حق الملكية في النظام القانوني المغربي، حيث تنظم العلاقات بين ملاك العقارات المتجاورة وتضمن استغلالها بشكل متوازن يحفظ مصالح الجميع. وقد أفردت مدونة الحقوق العينية الصادرة بموجب القانون رقم 39.08 فصلاً كاملاً لتنظيم هذه الحقوق، مراعية في ذلك التقاليد الفقهية المغربية والتطورات التشريعية الحديثة. تكتسي دراسة حقوق الارتفاق أهمية عملية بالغة، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة اليومية للمواطنين وبالتنمية العقارية والزراعية، مما يستدعي فهماً دقيقاً لأحكامها ونطاق تطبيقها.
اقرأ أيضا: تلخيص قانون التحفيظ العقاري والحقوق العينية
المبحث الأول: ماهية حقوق الارتفاق وأنواعها
المطلب الأول: مفهوم الارتفاق وخصائصه
الفقرة الأولى: التعريف والطبيعة القانونية
يعد الارتفاق من الحقوق العينية الأصلية التي تقوم بذاتها دون حاجة إلى حق آخر تستند إليه، وتعرفه المادة 37 من مدونة الحقوق العينية بأنه "حق عيني قوامه تحمل مقرر على عقار من أجل استعمال أو منفعة عقار يملكه شخص آخر". يتضح من هذا التعريف أن الارتفاق يفترض وجود عقارين على الأقل: عقار مرتفق به يتحمل التكليف، وعقار مرتفق يستفيد من هذا التكليف. وتكمن خصوصية هذا الحق في كونه لا يقوم لمصلحة شخص معين، وإنما لمصلحة عقار معين، بحيث ينتقل مع انتقال ملكية العقار المرتفق دون حاجة إلى اتفاق جديد.
تتميز حقوق الارتفاق بعدة خصائص جوهرية تجعلها متفردة بين الحقوق العينية. فهي أولاً حقوق تبعية للعقار المرتفق، بمعنى أنها لا تنفصل عنه ولا يمكن التصرف فيها بمعزل عن العقار ذاته. وهي ثانياً غير قابلة للتجزئة، حيث يبقى الارتفاق بكامله على كل جزء من أجزاء العقار المرتفق به، وينتفع به كل جزء من أجزاء العقار المرتفق. وهي ثالثاً دائمة بطبيعتها، إذ تستمر ما دام العقاران قائمين وما دامت الحاجة إلى الارتفاق قائمة، إلا إذا اتفق على خلاف ذلك أو زالت الأسباب التي أنشئ من أجلها.
الفقرة الثانية: مصادر نشوء الارتفاق
تتنوع مصادر نشوء حقوق الارتفاق بحسب الأساس الذي تقوم عليه، وقد حددت المادة 38 ثلاثة مصادر رئيسية. أولها الوضعية الطبيعية للأماكن، حيث تنشأ بعض الارتفاقات بحكم التكوين الطبيعي للعقارات دون تدخل الإرادة الإنسانية، كارتفاق المسيل الذي يلزم الأراضي المنخفضة بتلقي المياه السائلة طبيعياً من الأراضي العالية. وثانيها القانون، إذ يفرض المشرع بعض الارتفاقات لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة أو الخاصة، كحق المرور الضروري لصاحب الأرض المحصورة التي لا منفذ لها إلى الطريق العمومي. وثالثها إرادة المالكين، حيث يجوز لهم إحداث ارتفاقات على عقاراتهم أو لفائدتها باتفاق فيما بينهم، شرط عدم مخالفة القانون.
يخضع حق الارتفاق في ممارسته للقواعد المبينة في العقد المنشئ له أو في القانون، فإذا خلا العقد والقانون من نص يحكم مسألة معينة فإنه يتم الرجوع إلى الأعراف المحلية المعمول بها. ويستفيد صاحب العقار المرتفق من جميع الحقوق اللازمة لاستعمال الارتفاق، حيث تنص المادة 43 على أنه إذا تقرر حق الارتفاق لفائدة عقار معين فإنه يخول صاحبه كل ما هو لازم لاستعمال هذا الحق. كما يحق لصاحب حق الارتفاق القيام بجميع الأعمال الضرورية لاستعمال حقه وصيانته، شرط أن يستعمله بالقدر الذي لا يلحق بالعقار المرتفق به إلا أقل ضرر ممكن، وهو ما يعكس التوازن المطلوب بين مصلحة العقار المرتفق ومصلحة العقار المرتفق به.
المطلب الثاني: أنواع حقوق الارتفاق
الفقرة الأولى: ارتفاقات المياه
تحتل ارتفاقات المياه مكانة بارزة ضمن حقوق الارتفاق نظراً لأهميتها الاقتصادية والزراعية، وتشمل حق الشرب وحق المجرى وحق المسيل. يعرف حق الشرب بأنه نوبة من الماء ينتفع بها لسقي الأراضي وما بها من غرس وشجر، وهو ما نصت عليه المادة 50. ينتقل هذا الحق لزوماً تبعاً لانتقال ملكية الأرض التي تنتفع به، ويخضع لتنظيم دقيق يحدد كيفية توزيع المياه بين أصحاب الحق فيها. إذا كان مورد الماء عاماً فإن لكل شخص أن ينتفع منه بمختلف وجوه الانتفاع مع التقيد بالقوانين المتعلقة بنظام المياه، أما إذا كان خاصاً فلا يجوز لأحد أن يكون له حق الشرب عليه إلا برضى صاحبه، وإن كان مشتركاً فلا يجوز لأحد الشركاء ترتيب حق الشرب لفائدة الغير إلا بموافقة جميع الشركاء.
أما حق المجرى فهو الحق في تمرير ماء الري من مورده بأرض الغير للوصول به إلى الأرض المراد سقيها عبر مجرى أو مواسير. يستطيع كل مالك أرض يريد سقيها من مورد له الحق في استعماله أن يحصل على مرور المياه في الأراضي الواقعة بين أرضه والمورد، مقابل تعويض مناسب يدفع مقدماً وبشرط إقامة المجرى في مكان لا ينتج عنه إلا أقل ضرر. يقع على المستفيد من المجرى عبء تعميره والقيام بالإصالحات والترميمات اللازمة، ويتحمل وحده نفقات ذلك ما لم يكن هناك اتفاق مخالف. وفيما يتعلق بحق المسيل أو الصرف، فإن الأراضي المنخفضة تتلقى المياه السائلة طبيعياً من الأراضي العالية دون أن تساهم يد الإنسان في إسالتها، ولا يجوز لمالك الأرض المنخفضة منع هذا السيل، كما لا يجوز لمالك الأرض العالية زيادة العبء على الأرض المنخفضة.
الفقرة الثانية: ارتفاق المرور والمطل
يعد حق المرور من أهم الارتفاقات القانونية التي تهدف إلى تمكين كل مالك عقار من الوصول إلى الطريق العمومي، وهو حق ضروري لاستغلال العقار والانتفاع به. تنص المادة 64 على أن لكل مالك عقار ليس له منفذ إلى الطريق العمومي أو له منفذ غير كاف لاستغلال عقاره أن يحصل على ممر في أرض جاره نظير تعويض مناسب، شرط أن يقام هذا الممر في المكان الذي لا يسبب للأرض المرتفق بها إلا أقل ضرر. وإذا تم تقسيم ملك وأصبحت بعض أجزائه محصورة وبلا منفذ إلى الطريق العمومي، فلا يجوز لمالكها المطالبة بالمرور إلا في الأجزاء التي كانت موضوع التقسيم، فإذا تعذر ذلك طبقت القاعدة العامة في حق المرور.
أما ارتفاق المطل فيتعلق بالقيود الواردة على فتح النوافذ والشبابيك والمطلات على ملك الجار، حماية لخصوصيته وحرمة مسكنه. لا يجوز لمالك عقار أن يفتح في حائط مالصق لملك جاره نوافذ أو شبابيك أو أي فتحات مماثلة إلا برضى صاحب الملك المجاور، كما جاء في المادة 66. وإذا أراد المالك فتح مطلات أو شرفات مواجهة لملك الجار فعليه احترام مسافة مترين، ومتر واحد إذا كانت منحرفة، وهو ما نصت عليه المادة 68. لا يسري هذا المنع على المطلات والشرفات المفتوحة على الطريق العمومية، حيث يمكن للمالك البناء في حدود أرضه دون مراعاة النوافذ والشبابيك المفتوحة على ملكه إلا إذا وجدت اتفاقات مخالفة، مما يعكس حرية المالك في استعمال ملكه ضمن الحدود التي لا تضر بالجار.
المبحث الثاني: آثار الارتفاق وانقضاؤه
المطلب الأول: الحقوق والالتزامات المترتبة على الارتفاق
الفقرة الأولى: حقوق والتزامات صاحب العقار المرتفق
يتمتع صاحب العقار المرتفق بمجموعة من الحقوق التي تمكنه من الانتفاع الكامل بحق الارتفاق المقرر لفائدة عقاره. يحق له استعمال الارتفاق وفقاً للغرض الذي أنشئ من أجله وبالكيفية المحددة في العقد أو القانون أو العرف، كما يحق له القيام بجميع الأعمال الضرورية لاستعمال حقه وصيانته، شرط عدم تحميل العقار المرتفق به أكثر مما يجب. تقع نفقة إقامة المنشآت واللوازم الضرورية لاستعمال حق الارتفاق وصيانته على عاتق مالك العقار المرتفق ما لم ينص العقد على خلاف ذلك، فإذا كان العقار المرتفق به ينتفع بدوره من تلك المنشآت فإن نفقات أعمال الصيانة تقسم بين الطرفين كل بنسبة ما يعود عليه من نفع.
في المقابل، يتحمل صاحب العقار المرتفق التزامات معينة تهدف إلى ضمان عدم الإضرار بالعقار المرتفق به أكثر من اللازم. يجب عليه أن يستعمل حق الارتفاق بالقدر المعقول وألا يتجاوز الحدود المقررة له، كما يلتزم بصيانة المنشآت المقامة لاستعمال الارتفاق على نفقته الخاصة. وإذا تعددت الأنصبة المفرزة للعقار المرتفق بسبب القسمة أو غيرها، فإن حق الارتفاق يبقى مستحقاً لكل جزء منها على أن لا يزيد ذلك في عبء التكليف الواقع على العقار المرتفق به، وهو ما يعكس مبدأ عدم قابلية الارتفاق للتجزئة.
الفقرة الثانية: التزامات صاحب العقار المرتفق به
يلتزم مالك العقار المرتفق به بتحمل قيد الارتفاق وعدم القيام بأي عمل يرمي إلى الانتقاص من استعمال هذا الحق أو جعله أكثر مشقة على صاحبه. تنص المادة 47 على أن صاحب الملك المرتفق به لا يمكنه القيام بأي عمل يهدف إلى التقليل من استعمال حق الارتفاق أو زيادة صعوبته، ويلتزم على وجه الخصوص بعدم تغيير حالة الأماكن أو نقل استعمال الارتفاق إلى محل آخر غير المكان الذي وضع فيه أول مرة. غير أنه إذا صار الوضع الأول أشد كلفة على صاحب الملك المرتفق به أو مانعاً له من القيام بإصلاحات نافعة، أمكنه أن يعرض على صاحب الملك الآخر مكاناً يماثل المكان الأول في السهولة لاستعمال حقوقه، ولا يمكن لهذا الأخير أن يرفض ذلك.
لا يكون مالك العقار المرتفق به ملزماً بالقيام بأي عمل لمصلحة العقار المرتفق إلا ما كان يقتضيه الاستعمال المألوف لحق الارتفاق، كما جاء في المادة 45. بمعنى أن التزامه يقتصر على التحمل السلبي للارتفاق دون أن يكون مطالباً بأداء عمل إيجابي، إلا إذا نص العقد على خلاف ذلك. وإذا جزئ العقار المرتفق به بقي حق الارتفاق سارياً على الجزء الذي كان يشغله، مما يعني أن تجزئة العقار لا تؤثر على حق الارتفاق القائم عليه، وإنما يستمر هذا الحق على الجزء المعني به فقط دون باقي الأجزاء الأخرى.
المطلب الثاني: انقضاء حقوق الارتفاق
الفقرة الأولى: أسباب انقضاء الارتفاق
تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى انقضاء حق الارتفاق، وقد حددتها المادة 69 في ستة أسباب رئيسية. أولها انتهاء الأجل المحدد له، إذ قد ينشأ الارتفاق لمدة معينة فينقضي بانقضائها تلقائياً دون حاجة إلى إجراء آخر. وثانيها التنازل عن حق الارتفاق ممن له الحق فيه، حيث يجوز لصاحب العقار المرتفق أن يتنازل عن حقه صراحة لصالح مالك العقار المرتفق به، وينتج عن هذا التنازل زوال الارتفاق نهائياً. وثالثها اجتماع العقارين في يد مالك واحد، حيث تتحد الصفتان في شخص واحد فلا يعود هناك معنى لبقاء الارتفاق، إذ لا يمكن أن يكون للشخص حق ارتفاق على ملكه.
يضاف إلى ما سبق ثلاثة أسباب أخرى لانقضاء الارتفاق. رابعها أن يصير العقار المرتفق أو العقار المرتفق به في وضعية لا يمكن معها استعمال هذا الحق، كأن يصبح العقار المرتفق غير محتاج للارتفاق أو يصبح العقار المرتفق به غير قابل لتحمل الارتفاق بسبب تغير طبيعته أو استعماله. وخامسها هلاك العقار المرتفق أو العقار المرتفق به هلاكاً كلياً، إذ ينتهي الارتفاق بزوال محله سواء كان العقار المرتفق أو المرتفق به، أما إذا كان الهلاك جزئياً فإن الارتفاق يستمر على الجزء الباقي إذا كان لا يزال يفي بالغرض. وسادسها زوال الغرض الذي أحدث الارتفاق من أجله، حيث ينقضي الحق عندما تزول الحاجة إليه بصفة نهائية ودائمة.
الفقرة الثانية: آثار انقضاء الارتفاق
يترتب على انقضاء حق الارتفاق زوال التكليف عن العقار المرتفق به واستعادته لكامل حريته، بحيث يصبح مالكه قادراً على استعماله دون أي قيد مرتبط بالارتفاق المنقضي. تعود إلى مالك العقار المرتفق به جميع السلطات التي كانت مقيدة بسبب الارتفاق، ولا يعود ملزماً بتحمل أي استعمال لعقاره من صاحب العقار الذي كان مرتفقاً. غير أنه يجب التمييز بين آثار انقضاء الارتفاق بحسب السبب الذي أدى إلى هذا الانقضاء، فإذا كان الانقضاء بسبب التنازل أو انتهاء الأجل أو اجتماع العقارين فإن الأثر يكون نهائياً وقطعياً، أما إذا كان بسبب هلاك أحد العقارين أو زوال الغرض فقد يعود الارتفاق إلى الوجود إذا زال سبب الانقضاء.
من الآثار المهمة لانقضاء الارتفاق ما يتعلق بالمنشآت والأعمال التي أقيمت لاستعماله، حيث يثور التساؤل حول مصيرها بعد زوال الارتفاق. الأصل أن هذه المنشآت تبقى ملكاً لمن أقامها، وله الحق في إزالتها على نفقته الخاصة ما لم يتفق على خلاف ذلك، شرط أن يعيد الأماكن إلى حالتها السابقة ويعوض أي ضرر قد يلحق بالعقار المرتفق به. أما إذا كانت هذه المنشآت تعود بالنفع على العقار المرتفق به أيضاً، فإن مالك هذا الأخير قد يرغب في الاحتفاظ بها مقابل تعويض عادل يدفعه لمن أقامها. وفي جميع الأحوال، فإن انقضاء الارتفاق لا يؤثر على الحقوق المكتسبة للغير حسن النية، مما يعكس حرص المشرع على حماية الاستقرار القانوني والثقة المشروعة في المعاملات.
اقرأ أيضا: حق الملكية في القانون المغربي
تبين من خلال هذه الدراسة أن حقوق الارتفاق تشكل منظومة قانونية متكاملة تهدف إلى تنظيم العلاقات بين ملاك العقارات المتجاورة بما يحقق التوازن بين مصالحهم المتعارضة. جاءت مدونة الحقوق العينية لتوحد الأحكام المتعلقة بهذه الحقوق وتضع إطاراً واضحاً ينظم نشوءها وآثارها وانقضاءها، مستلهمة في ذلك التراث الفقهي المغربي والتطورات التشريعية المعاصرة. إن فهم أحكام الارتفاق يكتسي أهمية عملية كبيرة بالنسبة للمتعاملين في المجال العقاري، سواء عند اقتناء العقارات أو استغلالها أو التصرف فيها، كما يساعد على تفادي النزاعات المحتملة بين الجيران وتسويتها بطرق قانونية سليمة. ويبقى دور القضاء والفقه حاسماً في إغناء هذه المنظومة القانونية وتطويرها بما يخدم العدالة والإنصاف ويحقق الأمن القانوني والاستقرار في المعاملات العقارية.
